المرابطون والموحدون شجعوا السحرة وكانت لهم أسواقا عامرة يؤمها الناس
ما الذي يجمع بين دخان البخور وامواج البحر ونور القمر وبيض الحرباء وعش الخطاف وروث الدواب ومخ الضبع؟
ليس الامر لغزا لامتحان ذكاء القارئ، فمن الواضح، في فهم كل مطلع على أحوال المجتمع المغربي، ان الذي يجمع كل هذه العناصر المتفرقة الى بعضها هو علاقة غامضة ومخيفة تدعى السحر, وتشمل مطلق الممارسات والطقوس الغريبة التي تمكن الفرد من جلب المنافع او المضار لنفسه او للاخر بحسب الطلب، وتحقيق كل غريب وعجيب من رغبات الناس التي تختلف ولا تنتهي!
إن السحر من اقدم المعتقدات والظواهر التي عرفتها البشرية منذ ليل التاريخ, وليس معروفا عن شعب من شعوب الارض انه كان يجهله، في الماضي كما في الحاضر, وذلك ما دفع علماء الاجتماع والانثربولوجيا الى الخروج باستنتاج مفاده ان السحر هو نتاج حاجات طبيعية مشتركة، كامنة في اعماق النفس البشرية المعقدة.
ومثل غيرهم من امم وشعوب الارض، عرف المغاربة منذ العصور الغابرة معتقدات تعبدية وسحرية ما زالت بقاياها صامدة ومتداولة بيننا حتى الان, فقد عبد البربر وهم المغاربة الاقدمون عيون الماء والاشجار والكبش ملك القطيع والكواكب وجن المغارات والعيون والهواء, واعتقدوا في السحر، اي في امكانية خلق شيء أو حيوان او بشر اما برسمه او بكل بساطة من خلال النطق باسمه, واعتقدوا انهم بذلك يستطيعون التحكم فيه والامساك به وتدميره او معاقبته, ومارسوا ايضا عبادة الموتى، وكانوا يوجهون قبورهم جهة مشرق الشمس ويدفنون مع موتاهم المجوهرات والجرار والقصاع الطينية لاعتقادهم في خلود الروح.
واذا كانت تلك معتقدات اسلاف البربر، فإن القارئ سيكتشف خلال الاتي من مقالات ان الكثير من المعتقدات والممارسات السحرية التي لا تزال رائجة حتى اللحظة الراهنة في المغرب، هي استمرار لتلك المعتقدات القديمة التي سادت منذ ما قبل التاريخ, واضيفت اليها خلال المراحل التاريخية اللاحقة بعض المعتقدات والطقوس الرومانية، خلال فترة الوجود الروماني بالمغرب، قبل الفتح الاسلامي, كما انضافت اليها في العصور الوسطى تأثيرات افريقية حملها معهم الى المغرب التجار الذين كانوا يجلبون العبيد من غرب افريقيا، بالاضافة الى التأثيرات القادمة من الشرق الاسلامي.
ويشهد التاريخ ان ملوك اكثر السلالات الحاكمة في المغرب اصولية وتشبثا بأحكام الشريعة الاسلامية، وهم المرابطون والموحدون، كانوا يشجعون او يغضون الطرف عن انتشار السحر والسحرة, وكانت في عصورهم للسحر اسواق عامرة يؤمها عامة الناس على مرأى ومسمع من السلطات، بل ان الملوك المرابطين حسب روايات تاريخية كانوا يستشيرون المنجمين، قبل عبورهم البوغاز الى عدوة الاندلس.
ويحكي المؤرخ ابن عذاري المراكشي في هذا الصدد، ان الامير أبا القاسم الذي كان يرافق يوسف بن تاشفين المرابطي، خلال غزوته للضفة الاندلسية من بوغاز جبل طارق، لم يعط الامر لجنوده بمهاجمة الجيوش المعادية الا بعد ما حصل على موافقة منجمه,, حيث يقول المراكشي «فأمر الامير ابوالقاسم منجمه بأخذ طالع الوقت والنظر فيه فوجده أوفق طالع وأسعد وأدلها على أن الظفر للمسلمين والدايرة للمشركين، حسب ما جرى الامر عليه,,».
وحسبنا هذه الاشارة التاريخية العابرة لنصل الى مغرب الحاضر، الذي لا يزال للمعتقدات السحرية القديمة فيه حضور قوي، من ابرز تجلياته ما نراه من رسم لاصابع اليد الخمسة على مؤخرة شاحنة,, او كتابة عبارة «عين الحسود فيها عود»، او تعليق حدوة الحصان على بعض ابواب الدور، بالاضافة الى الاقبال الذي لا يزال كبيرا على زيارة اضرحة الاولياء ودكاكين السحرة واسواقهم، الخ في مدن المغرب الكبيرة، كما فيقراه النائية.
ويدفعنا ذلك الى اعادة طرح السؤال القديم الذي طرحه بعض الانثربولوجيين منذ بدايات القرن الماضي: من اين اكتسب المغاربة تفوقهم على غيرهم من الشعوب المغاربية والعربية في مجالات السحر؟
المؤكد ان انفتاح بلادنا عبر التاريخ على رياح التأثيرات التي حملها معهم، بشكل متلاحق، تجار وغزاة او فاتحون فينقيون ورومانيون وقرطاجيون وافارقة ويهود ثم مسلمون، كان له دور ما في هذا «التفوق»، لكن من جانب آخر، يسجل تاريخ السحر في المغرب ان نخبة من الفقهاء، السحرة المغاربة وضعوا قبل قرون مصنفات تعتبر رائدة واعمالا مؤسسة في هذا المجال, ونخص منهم بالذكر ابا العباس البوني وابن الحاج المغربي، اللذين ألفا الكثير من الكتب في العلوم الخفية، لا يزال رواجها الكبير على طول الوطن العربي وعرضه حتى اليوم، دليلا قائما يشهد على تفوقها في الميدان.
وقد شكلت تلك المصنفات تحولا غير مسبوق زاد من نشر «المعارف الخفية» على نطاق واسع، حيث لم تبق أسرارا ثمينة تحتكرها صفوة الفقهاء السحرة، ونزلت الى الارصفة لتباع بأبخس الاثمان, وصارت ربات البيوت يتسابقن الى تجريب الوصفات الغربية التي تعج بها تلك الاوراق الصفراء، من اجل علاج طفل مريض او كبح تسلط زوج!
لكن، كيف نفسر تعايش بقايا المعتقدات السحرية مع التطور الهائل للعلوم في الوقت الذي يعيش فيه المجتمع المغربي المعاصر منذ عقود قليلة في بؤرة تحولات عميقة تمس بنياته وانماط التفكير والسلوك لدى الافراد والجماعات ومن عنف التحولات تستحيل الحياة اكثر ميلا الى الصعوبة والتعقيد.
والمعروف في علم الاجتماع انه في زمن التحولات العميقة تتنامى مشاعر عدم الاستقرار ويزداد انتشار الخرافات كلما زادت ظروف الحياة صعوبة، اي ان الخرافات تكثر وتنتشر بانتشار حالات القلق والاضطراب والشعور بالضعف والعجز عن مواجهة مشكلات الحياة ومخاطرها», ولذلك فإن السحر كما الخرافة في المجتمع المغربي، انما يقوم بتهدئة المخاوف الناشئة عن الاضطرابات التي تسود زمن التحولات الراهن.
وبعبارة أخرى يمكن القول ان السحر يحافظ على مشاعر الخوف من الانحرافات والتوترات المؤذية للمجتمع، فيلعب بذلك لصالح ضبط النظام الاجتماعي (القائم), فهو من الجانب السوسيولوجي مطمئن لانه يمنح للانسان الاعتقاد في التعرف على الشر وانه في الامكان معالجته, ومن الجانب النفساني، يلعب السحر دورا تفريغيا بتحديده لمبررات القلق لدى الفرد وتغييره لاتجاه العدوانية نحو عامل محدد للضر,, اما من الجانب الايديولوجي فإن السحر يفسر من خلال حركة الارواح الشريرة، انتقائية الحوادث والمصائب والويلات التي تصيب بعض الناس وليس الاخرين,,» ومن هنا الضرورة التي يفرضها السحر على الافراد باللجوء اليه في مرحلة التحولات العميقة.
إن هذه السلسلة من المقالات ليست تذكرة داود لمن يرغب في تعلم السحر, والوصفات التي سيجدها القارئ في بعض الحلقات تعمدنا التصرف فيها، بشكل يحبط كل محاولة لتطبيقها, واذا نوردها فلغاية وحيدة هي تقريب نمط التفكير السحري الى القارئ غير المطلع, ولن نكرر بما يكفي من الالحاح تحذيرنا للقارئ الكريم من مغبة تجريبها, وناقل الكفر ليس بكافر!
عندما شرعنا في تجميع المادة المرجعية لاعداد هذه المقالات حول السحر في المغرب، هالنا حجم الفراغ الكبير الذي تعانيه المكتبة المغربية حول الموضوع, فكل ما هو منشور باللغة العربية حتى الان لا يتجاوز بضع مقالات وكتابين او ثلاثة تتناول موضوع السحر بشكل عام, ولا تعكس بالتالي عمق وحجم انتشار الظواهر والمعتقدات السحرية في المغرب.
واغلب ما كتب حول الموضوع باللغات الاجنبية خصوصا الانكليزية والفرنسية، انتج خلال المرحلة التي سبقت وواكبت او تلت الوجود الاستعماري الفرنسي للمغرب، اي نهايات القرن التاسع عشر الى منتصف القرن العشرين الميلادي, وانتجته ثلة من المهتمين والباحثين الاجانب، اغلبهم فرنسيون، وللامانة نسجل ان بعضهم درسوا السحر في بلادنا بالكثير من العمق، فيما كان اخرون منهم متحاملين تحكمهم نظرة التفوق الاستعماري على شعبنا «المتخلف» و«المتوحش».
وفي مقابل فراغ المكتبة المغربية والعربية الملحوظ من المؤلفات التي تتناول السحر من وجهة نظر نقدية، لاحظنا ان «مكتبات الرصيف» تحقق ارباحا خيالية من اعادة طبع الكتب الصفراء التي تتناول مجالات واغراض السحر باستعراضها لوصفات مفصلة تفي بكل الاغراض التي تخطر ولا تخطر على بال انسان، وتلاقي اقبالا لا يتصور من قراء كثر، يميز اغلبهم بالكاد بين الحروف الابجدية!
قد يلاحظ القراء على هذه الحلقات انكبابها على المعتقدات والممارسات السحرية في ارتباطها بظاهرة الاولياء المتصوفة والزوايا الواسعة النفوذ الروحي في المغرب, ويجد ذلك مبرره في كون كاتب هذه السطورة يعتقد بتواضع لكن بيقين تام، انه «بين المقدس والسحري (في معتقد عامة المغاربة) ليس ثمة فرق جوهري»، كما خلص اليه (ادموند دوتيه) قبل قرن من اليوم, ونسوق دليلا على ذلك، مرة أخرى، ما نلمسه من تمسح بالمزارات والاضرحة التي لا تزال وستبقى لفترة طويلة مقبلة مجالا حيويا للسحرة وباعة الوهم, اولئك الذين يزعمون تخليص مرضى الخرافة من شر يلاحقهم ليمنحوهم في المقابل «البركة»، هذه القوة السحرية التي تفعل كل شيء تجلب العريس للفتاة العانس، وتشفي امراض البدن والعقل، كما تقرأ لاصحاب النفوس القلقة من المجهول صفحات المستقبل من دون غموض وبصيغ التفاؤل.
أليس ذلك هو التخصص الكبير للاضرحة وللسحر في المغرب؟
ما الذي يجمع بين دخان البخور وامواج البحر ونور القمر وبيض الحرباء وعش الخطاف وروث الدواب ومخ الضبع؟
ليس الامر لغزا لامتحان ذكاء القارئ، فمن الواضح، في فهم كل مطلع على أحوال المجتمع المغربي، ان الذي يجمع كل هذه العناصر المتفرقة الى بعضها هو علاقة غامضة ومخيفة تدعى السحر, وتشمل مطلق الممارسات والطقوس الغريبة التي تمكن الفرد من جلب المنافع او المضار لنفسه او للاخر بحسب الطلب، وتحقيق كل غريب وعجيب من رغبات الناس التي تختلف ولا تنتهي!
إن السحر من اقدم المعتقدات والظواهر التي عرفتها البشرية منذ ليل التاريخ, وليس معروفا عن شعب من شعوب الارض انه كان يجهله، في الماضي كما في الحاضر, وذلك ما دفع علماء الاجتماع والانثربولوجيا الى الخروج باستنتاج مفاده ان السحر هو نتاج حاجات طبيعية مشتركة، كامنة في اعماق النفس البشرية المعقدة.
ومثل غيرهم من امم وشعوب الارض، عرف المغاربة منذ العصور الغابرة معتقدات تعبدية وسحرية ما زالت بقاياها صامدة ومتداولة بيننا حتى الان, فقد عبد البربر وهم المغاربة الاقدمون عيون الماء والاشجار والكبش ملك القطيع والكواكب وجن المغارات والعيون والهواء, واعتقدوا في السحر، اي في امكانية خلق شيء أو حيوان او بشر اما برسمه او بكل بساطة من خلال النطق باسمه, واعتقدوا انهم بذلك يستطيعون التحكم فيه والامساك به وتدميره او معاقبته, ومارسوا ايضا عبادة الموتى، وكانوا يوجهون قبورهم جهة مشرق الشمس ويدفنون مع موتاهم المجوهرات والجرار والقصاع الطينية لاعتقادهم في خلود الروح.
واذا كانت تلك معتقدات اسلاف البربر، فإن القارئ سيكتشف خلال الاتي من مقالات ان الكثير من المعتقدات والممارسات السحرية التي لا تزال رائجة حتى اللحظة الراهنة في المغرب، هي استمرار لتلك المعتقدات القديمة التي سادت منذ ما قبل التاريخ, واضيفت اليها خلال المراحل التاريخية اللاحقة بعض المعتقدات والطقوس الرومانية، خلال فترة الوجود الروماني بالمغرب، قبل الفتح الاسلامي, كما انضافت اليها في العصور الوسطى تأثيرات افريقية حملها معهم الى المغرب التجار الذين كانوا يجلبون العبيد من غرب افريقيا، بالاضافة الى التأثيرات القادمة من الشرق الاسلامي.
ويشهد التاريخ ان ملوك اكثر السلالات الحاكمة في المغرب اصولية وتشبثا بأحكام الشريعة الاسلامية، وهم المرابطون والموحدون، كانوا يشجعون او يغضون الطرف عن انتشار السحر والسحرة, وكانت في عصورهم للسحر اسواق عامرة يؤمها عامة الناس على مرأى ومسمع من السلطات، بل ان الملوك المرابطين حسب روايات تاريخية كانوا يستشيرون المنجمين، قبل عبورهم البوغاز الى عدوة الاندلس.
ويحكي المؤرخ ابن عذاري المراكشي في هذا الصدد، ان الامير أبا القاسم الذي كان يرافق يوسف بن تاشفين المرابطي، خلال غزوته للضفة الاندلسية من بوغاز جبل طارق، لم يعط الامر لجنوده بمهاجمة الجيوش المعادية الا بعد ما حصل على موافقة منجمه,, حيث يقول المراكشي «فأمر الامير ابوالقاسم منجمه بأخذ طالع الوقت والنظر فيه فوجده أوفق طالع وأسعد وأدلها على أن الظفر للمسلمين والدايرة للمشركين، حسب ما جرى الامر عليه,,».
وحسبنا هذه الاشارة التاريخية العابرة لنصل الى مغرب الحاضر، الذي لا يزال للمعتقدات السحرية القديمة فيه حضور قوي، من ابرز تجلياته ما نراه من رسم لاصابع اليد الخمسة على مؤخرة شاحنة,, او كتابة عبارة «عين الحسود فيها عود»، او تعليق حدوة الحصان على بعض ابواب الدور، بالاضافة الى الاقبال الذي لا يزال كبيرا على زيارة اضرحة الاولياء ودكاكين السحرة واسواقهم، الخ في مدن المغرب الكبيرة، كما فيقراه النائية.
ويدفعنا ذلك الى اعادة طرح السؤال القديم الذي طرحه بعض الانثربولوجيين منذ بدايات القرن الماضي: من اين اكتسب المغاربة تفوقهم على غيرهم من الشعوب المغاربية والعربية في مجالات السحر؟
المؤكد ان انفتاح بلادنا عبر التاريخ على رياح التأثيرات التي حملها معهم، بشكل متلاحق، تجار وغزاة او فاتحون فينقيون ورومانيون وقرطاجيون وافارقة ويهود ثم مسلمون، كان له دور ما في هذا «التفوق»، لكن من جانب آخر، يسجل تاريخ السحر في المغرب ان نخبة من الفقهاء، السحرة المغاربة وضعوا قبل قرون مصنفات تعتبر رائدة واعمالا مؤسسة في هذا المجال, ونخص منهم بالذكر ابا العباس البوني وابن الحاج المغربي، اللذين ألفا الكثير من الكتب في العلوم الخفية، لا يزال رواجها الكبير على طول الوطن العربي وعرضه حتى اليوم، دليلا قائما يشهد على تفوقها في الميدان.
وقد شكلت تلك المصنفات تحولا غير مسبوق زاد من نشر «المعارف الخفية» على نطاق واسع، حيث لم تبق أسرارا ثمينة تحتكرها صفوة الفقهاء السحرة، ونزلت الى الارصفة لتباع بأبخس الاثمان, وصارت ربات البيوت يتسابقن الى تجريب الوصفات الغربية التي تعج بها تلك الاوراق الصفراء، من اجل علاج طفل مريض او كبح تسلط زوج!
لكن، كيف نفسر تعايش بقايا المعتقدات السحرية مع التطور الهائل للعلوم في الوقت الذي يعيش فيه المجتمع المغربي المعاصر منذ عقود قليلة في بؤرة تحولات عميقة تمس بنياته وانماط التفكير والسلوك لدى الافراد والجماعات ومن عنف التحولات تستحيل الحياة اكثر ميلا الى الصعوبة والتعقيد.
والمعروف في علم الاجتماع انه في زمن التحولات العميقة تتنامى مشاعر عدم الاستقرار ويزداد انتشار الخرافات كلما زادت ظروف الحياة صعوبة، اي ان الخرافات تكثر وتنتشر بانتشار حالات القلق والاضطراب والشعور بالضعف والعجز عن مواجهة مشكلات الحياة ومخاطرها», ولذلك فإن السحر كما الخرافة في المجتمع المغربي، انما يقوم بتهدئة المخاوف الناشئة عن الاضطرابات التي تسود زمن التحولات الراهن.
وبعبارة أخرى يمكن القول ان السحر يحافظ على مشاعر الخوف من الانحرافات والتوترات المؤذية للمجتمع، فيلعب بذلك لصالح ضبط النظام الاجتماعي (القائم), فهو من الجانب السوسيولوجي مطمئن لانه يمنح للانسان الاعتقاد في التعرف على الشر وانه في الامكان معالجته, ومن الجانب النفساني، يلعب السحر دورا تفريغيا بتحديده لمبررات القلق لدى الفرد وتغييره لاتجاه العدوانية نحو عامل محدد للضر,, اما من الجانب الايديولوجي فإن السحر يفسر من خلال حركة الارواح الشريرة، انتقائية الحوادث والمصائب والويلات التي تصيب بعض الناس وليس الاخرين,,» ومن هنا الضرورة التي يفرضها السحر على الافراد باللجوء اليه في مرحلة التحولات العميقة.
إن هذه السلسلة من المقالات ليست تذكرة داود لمن يرغب في تعلم السحر, والوصفات التي سيجدها القارئ في بعض الحلقات تعمدنا التصرف فيها، بشكل يحبط كل محاولة لتطبيقها, واذا نوردها فلغاية وحيدة هي تقريب نمط التفكير السحري الى القارئ غير المطلع, ولن نكرر بما يكفي من الالحاح تحذيرنا للقارئ الكريم من مغبة تجريبها, وناقل الكفر ليس بكافر!
عندما شرعنا في تجميع المادة المرجعية لاعداد هذه المقالات حول السحر في المغرب، هالنا حجم الفراغ الكبير الذي تعانيه المكتبة المغربية حول الموضوع, فكل ما هو منشور باللغة العربية حتى الان لا يتجاوز بضع مقالات وكتابين او ثلاثة تتناول موضوع السحر بشكل عام, ولا تعكس بالتالي عمق وحجم انتشار الظواهر والمعتقدات السحرية في المغرب.
واغلب ما كتب حول الموضوع باللغات الاجنبية خصوصا الانكليزية والفرنسية، انتج خلال المرحلة التي سبقت وواكبت او تلت الوجود الاستعماري الفرنسي للمغرب، اي نهايات القرن التاسع عشر الى منتصف القرن العشرين الميلادي, وانتجته ثلة من المهتمين والباحثين الاجانب، اغلبهم فرنسيون، وللامانة نسجل ان بعضهم درسوا السحر في بلادنا بالكثير من العمق، فيما كان اخرون منهم متحاملين تحكمهم نظرة التفوق الاستعماري على شعبنا «المتخلف» و«المتوحش».
وفي مقابل فراغ المكتبة المغربية والعربية الملحوظ من المؤلفات التي تتناول السحر من وجهة نظر نقدية، لاحظنا ان «مكتبات الرصيف» تحقق ارباحا خيالية من اعادة طبع الكتب الصفراء التي تتناول مجالات واغراض السحر باستعراضها لوصفات مفصلة تفي بكل الاغراض التي تخطر ولا تخطر على بال انسان، وتلاقي اقبالا لا يتصور من قراء كثر، يميز اغلبهم بالكاد بين الحروف الابجدية!
قد يلاحظ القراء على هذه الحلقات انكبابها على المعتقدات والممارسات السحرية في ارتباطها بظاهرة الاولياء المتصوفة والزوايا الواسعة النفوذ الروحي في المغرب, ويجد ذلك مبرره في كون كاتب هذه السطورة يعتقد بتواضع لكن بيقين تام، انه «بين المقدس والسحري (في معتقد عامة المغاربة) ليس ثمة فرق جوهري»، كما خلص اليه (ادموند دوتيه) قبل قرن من اليوم, ونسوق دليلا على ذلك، مرة أخرى، ما نلمسه من تمسح بالمزارات والاضرحة التي لا تزال وستبقى لفترة طويلة مقبلة مجالا حيويا للسحرة وباعة الوهم, اولئك الذين يزعمون تخليص مرضى الخرافة من شر يلاحقهم ليمنحوهم في المقابل «البركة»، هذه القوة السحرية التي تفعل كل شيء تجلب العريس للفتاة العانس، وتشفي امراض البدن والعقل، كما تقرأ لاصحاب النفوس القلقة من المجهول صفحات المستقبل من دون غموض وبصيغ التفاؤل.
أليس ذلك هو التخصص الكبير للاضرحة وللسحر في المغرب؟